ازدهار الجنس البشري ورخاؤه

Statements

ازدهار الجنس البشري ورخاؤه

ازدهار الجنس البشري ورخاؤه وثيقة أعدّها مكتب المعلومات العامّة التّابع للجامعة البهائيّة العالميّة في حيفا، وزّعت لأوّل مرّة في مؤتمر القمّة العالمي للتّنمية الاجتماعيّة الذي عقدته الأمم المتّحدة في كوبنهاغن، الدّانمرك. كوبنهاغن، الدّانمارك

٣ شباط ١٩٩٥

إنّ السّلام العالميّ الذي رسمناه في أذهاننا صورًا وأمثالًا قد بدأ اليوم يبزغ شكلًا ومضمونًا على نحو بدا مستحيلًا تخيّله قبل عقد من الزّمان. فالعوائق التي بدت كأداء في طريق الإنسانيّة لفترة طويلة قد انهارت، والصراعات التي بانت مستعصية على الحلّ بدأت تخضع لعمليّات من المشورة وإصدار القرارات بغية حلّها، ولاح في الوجود استعداد للقيام بعمل دوليّ موحّد للتّصدّي لأيّ عدوان عسكريّ مسلّح. كلّ ذلك أوقد في نفوس جماهير النّاس والعديد من قادة العالم جذوة الأمل التي كادت تخبو تجاه مستقبل كوكبنا الأرضيّ.

ففي جميع أنحاء العالم تسعى طاقات فكريّة وروحانيّة هائلة إلى التّعبير عن ذاتها، وتبلغ في مداها وتعاظم أثرها حدًّا يحاكي ما جابهته من إحباط في مساعيها وتبديد لآمالها في العقود الأخيرة. والمؤشّرات إلى ما ترنو إليه شعوب الأرض من وضع حدّ للصّراع والمحن والدّمار الذي بات يهدّد كلّ جزء من المعمورة دون استثناء، نراها تتضاعف في كلّ مكان. فهذه النّبضات المتعاظمة المنادية بالتّحوّل والتّغيير يجب استغلالها وتوظيفها في القضاء على بقايا العقبات أمام تحقيق سلام عالميّ يراود أحلامنا ردحًا من الزمن. إنّ الجهد اللازم لخلق إرادة ترقى إلى هذه المهمة لا يُحشد بمجرّد إطلاق الدّعوات نحو عمل يقضي على الآفات والشّرور المستشرية في المجتمع، بل لا بدّ لهذه الإرادة أن تحفّزها رؤية تُجسّد ازدهار العالم الإنسانيّ بكل ما في الكلمة من معنى، وذلك بأنّ تعي ما تنعم به من إمكانات كفيلة برفع دعائم حياة ماديّة وروحيّة تصيب بخيرها كافّة سكان الكرة الأرضيّة دون تمييز، بعيدًا عن شروط مفروضة لا علاقة لها بالأهداف الأساسيّة التي ترمي إلى إعادة تنظيم شؤون البشر.

ولغاية الآن، اقتصر التّاريخ بالدّرجة الأولى على تسجيل تجارب القبائل ومختلف الثّقافات والطّبقات والأمم. ومع بروز الاتّحاد الماديّ لهذا الكوكب في القرن الحاليّ، والإقرار بمبدأ التّكافل بين كلّ من يعيش عليه، يبدأ اليوم سجلّ جديد في التّاريخ يؤرّخ للإنسانيّة حياتها على أنّها أمّة واحدة. إنّ المسيرة الطّويلة والبطيئة لتمدّن البشريّة كانت متقطِّعة ومتفاوتة وغير عادلة فيما جاءت به من فوائد ماديّة على نحو لا يمكن إنكاره. ومع ذلك، فإنّ أهل الأرض، بما هم عليه من وفير النّعم بتعدّد الثّقافات وتنوّع الخصائص المتوارثة عبر العصور، يجابهون الآن تحدّيات تفرض عليهم الاستفادة من تراثهم الجماعيّ، ولا مناص لهم من حمل أمانة المسؤوليّة في رسم مستقبل أيّامهم بوعي ومنهجيّة.

إنّه بعيد عن الواقع إذا ما تخيّلنا المرحلة القادمة من مسيرة الحضارة الإنسانيّة دون إعادة  النّظر بشكل دقيق بالمواقف والافتراضات القائمة عليها توجّهاتنا ومقارباتنا الحاضرة نحو التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ويستوجب مثل هذا التّقييم الجديد، في أبسط مستوياته، اهتمامًا بالنّواحي العمليّة المتعلّقة بوضع السّياسة العامّة، وكيفيّة استغلال الموارد، والإجراءات المتّبعة في التّخطيط، ومنهجيّات التّنفيذ، وتصميم التّنظيم الإداريّ. ومع تقدّمنا في هذا المجال، ستطفو على الفور قضايا أساسيّة تتعلّق بأهداف بعيدة المدى من الواجب تنفيذها منها: الهياكل الاجتماعيّة المطلوبة، متطلّبات تطوير مبادئ العدالة الاجتماعيّة، وطبيعة المعرفة ودورها في إحداث التّغيير الدّائم. إنّ إعادة النّظر هذه سوف تؤدّي بالتّأكيد إلى إيجاد مفهوم جماعيّ شامل للطّبيعة البشريّة ذاتها.

وفي نقاشنا كافّةَ هذه القضايا، المفاهيميّة منها والعمليّة، سيبرز أمامنا مباشرة مجالان، وعن طريقهما نودّ أن نستكشف في الصفحات التّالية موضوع استراتيجيّة للتّنمية تطال المجتمع الدّولي بأسره. ففي الأول نتناول المعتقدات السّائدة حول طبيعة عمليّة التّنمية وغايتها؛ وفي الثّاني ننظر إلى الدّور المسند إلى أنصارها على اختلافهم وتعدّدهم.

إنّ التخطيط التنموي الراهن يقوم معظمه على افتراضات ماديّة الأصول، بمعنى أن تعريف الغرض من التّنمية هو نقل نفس تلك الوسائل الناجحة التي حققت ولغاية الآن الازدهار المادي في بعض مناطق العالم عن طريق التجربة والخطأ وبسطها إلى سائر المجتمعات الأخرى. وفي واقع الأمر يتمّ تكييف حوارات التّنمية لتناسب اختلافات ثقافيّة وسياسيّة، واستجابةً للأخطار الجّسيمة النّاجمة عن التدهور البيئي. ورغم ذلك كلّه تبقى الافتراضات الماديّة في أساسها دون منازع.

أمَا وقد قارب القرن العشرون على الانتهاء، فإنّه يستحيل علينا اليوم أن نسترسل في اعتقادنا بأنّ المقاربة التي أبرَزَها المفهوم الماديّ للحياة لمعالجة التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة قادرة على تلبية حاجات الإنسان. فها قد تلاشت تلك التّكهّنات الملأى بالتّفاؤل حيال التّغيير، وغارت في أعماق هوّة فاغرة تتّسع دومًا لتفصل أقليّة من بني البشر يتمتّع أفرادها برَغَد العيش ويتناقصون نسبيًّا، عن أغلبيّة ساحقة من شعوب الأرض تطحنهم أضراس الجوع والفقر.

إنّ هذه الأزمة الاقتصاديّة غير المسبوقة وما أتت به من انهيار اجتماعيّ، تعكس ذلك الخطأ الفادح في فهم الطّبيعة البشريّة ذاتها؛ فردود الفعل التي تثيرها في النّاس حوافز النّظام الاقتصاديّ السّائد لا تنحدر إلى عدم الكفاية فحسب، بل تبدو عديمة الصّلة بحقيقة ما يجري في العالم من أحداث. وهكذا، نشاهد الآن بوضوح أنّه ما لم يُحدَّد هدف لتنمية المجتمع أسمى من مجرد تحسين الأوضاع الماديّة، فإنّ تلك التّنمية ستفشل حتى في تحقيق تلك الأغراض. ويجب أن يكون البحث عن هذا الهدف في محيط الأبعاد الروحيّة للحياة ودوافعها التي تسمو فوق حدود الميدان الاقتصاديّ المتقلّب، وتتجاوز إخضاع المجتمعات الإنسانيّة لتقسيمٍ زائف بين مجتمعات "متقدّمة" وأخرى "نامية".

وفي مراجعتنا لتعريف الهدف الذي تسعى إليه التّنمية، تغدو الحاجة ملحّة أيضًا إلى إعادة النّظر في الافتراضات التي أُسندت بموجبها الأدوار المناسبة التي ينبغي على المشاركين القيام بها في هذه العمليّة. ولا حاجة بنا إلى بيان الدّور الهام الذي تلعبه الحكومات على كافّة المستويات في هذا المجال. أمّا أجيالنا القادمة فسيكون عسيرًا عليها إدراك ما آلت إليه الأوضاع الرّاهنة في عصر يمجّد فلسفة المساواة بين بني البشر وما يدور في فلكها من مبادئ الدّيمقراطية، حيث تَعتبر خططُ التّنمية جموعَ البشرية في الأساس كمتقبّلين لما تجود به برامج المعونة والتّدريب. وبالرّغم من الإقرار بمبدأ المشاركة العموميّة في صنع القرارات، إلا أنّ مجاله المُتاح أمام شعوب الأرض ضيّق جدًّا، وهو في أحسن الأحوال ثانويّ الأهميّة ومقصور على مجموعة من الخيارات تصوغها وكالات يتعذّر الاتّصال بها أو الوصول إليها، ومحدّد بأهداف غالبًا ما تتعارض ومفهوم الشّعوب لواقع حياتها وحقيقة أوضاع معيشتها.

وتعتمد الأديان المنظَّمة ضمنًا، وإن لم يكن صراحة، أسلوب المقاربة هذه. فالفكر الدّيني المعاصر الذي يرزح تحت نير تقاليد النّهج الأبويّ، يبدو عاجزًا عن ترجمة ذلك الإيمان الدّيني الصّريح بالأبعاد الروحانيّة للطّبيعة الإنسانيّة إلى ثقة بالقدرة الجماعيّة لدى البشر للسّمو فوق الشّؤون الماديّة.

مثل هذا الموقف يغفل عن مغزى ما يمكن أن يُعدَّ أهمَّ ظاهرة عرفها وقتنا الحاضر. فإذا كان صحيحًا أنّ حكومات العالم جادّة في سعيها لتشييد نظام عالميّ جديد عبر منظومة الأمم المتّحدة، فيصدق القول أيضًا أنّ هذه الرّؤية قد حرّكت مشاعر شعوب العالم. وتَجسَّدَ تجاوبهم هذا في انبعاث مفاجئ لعدد لا يُحصى من حركات ومنظّمات تدعو إلى التّغيير الاجتماعيّ وتنشط على المستويات المحليّة والإقليميّة والعالميّة. فقضايا من قبيل: حقوق الإنسان، وتقدّم المرأة، والمتطلّبات الاجتماعيّة لتنمية اقتصاديّة مستدامة، وإزالة التّعصّبات، والتّربية الأخلاقيّة للأطفال، ومحو الأميّة، والرّعاية الصحيّة الأوليّة، وعددٍ جَمٍّ من شواغل حيويّة أخرى، كلّ منها يستحقّ التّأييد العاجل من منظّمات تؤازرها أعداد متنامية في كلّ جزء من الكرة الأرضيّة.

ولم يكن تجاوب شعوب العالم هذا في تلبية حاجات العصر الملحّة إلاّ صدى لما نادى به حضرة بهاء الله قبل ما يربو على قرن من الزّمن حين أعلن قائلًا: "اهتمّوا بما يحتاجه عصركم، وركّزوا أفكاركم في متطلّباته ومقتضياته."  ومن وجهة نظر التّاريخ الحضاريّ للإنسان، فقد طرأ تحوّل مدهش ومثير في الكيفيّة التي ينظر بها عدد غفير من النّاس العاديّين إلى أنفسهم، مما يطرح أسئلة جوهريّة عن ماهيّة الدور الذي خُصص للمجموعة البشريّة عامّة في التّخطيط لمستقبل كوكبنا الذي نعيش عليه.

-۱-

إنّ حجر الأساس لاستراتيجيّة يمكنها أن تُشرك سكان العالم بتولّي مسؤوليّة مصيرهم الجماعيّ، يجب أن يكون الوعي بوحدة الجنس البشريّ. فمفهوم وحدة الجنس البشريّ شعبًا واحدًا يخدعنا ببساطته حين نتعرّض له في نقاشنا العام. إنّ هذا المفهوم، في حقيقة الأمر، يطرح تحدّيات جوهريّة أمام معظم هيئات المجتمع المعاصر فيما يتعلّق بالأسلوب الذي يؤدي به وظائفه. فها قد أصبحت المجابهة والنّزاع أساسًا للتّعامل بين البشر، أكان ذلك في تركيبة أجهزة الحكومة المدنيّة الباعثة على المناوأة، أم في دعم مبدأ حقّ الدّفاع الذي ينبثق عنه معظم القانون المدنيّ، أم في ما نشاهده من تمجيد الصّراع بين طبقات المجتمع وفئاته الأخرى، بالإضافة إلى ما نلمسه من روح التّنافس المُسيطر على جزء كبير من الحياة المعاصرة. وما هذه المظاهر سوى تعبير آخر للمفهوم الماديّ للحياة، وهو المفهوم الذي تغلغلت جذوره عميقة في النّظام الاجتماعيّ خلال القرنيْن الماضييْن وتأصَّلت فيه بشكلٍ متنامٍ.

وفي خطاب بعث به حضرة بهاء الله إلى الملكة فكتوريا قبل قرن ونيّف، أشار إلى الأنموذج الأوحد الذي يمكن اعتباره مقنعًا في تنظيم هذا الكوكب كمجتمع عالميّ. فشبّه حضرته العالم بجسم الإنسان. وبالفعل فإنّه لا وجود في ظواهر الكون لأنموذج غيره يمكن أن نعتبره مثلًا. فالمجتمع البشريّ ليس مجرد كتلة من الخلايا المتمايزة، بل شبكة من العلاقات والرّوابط الإنسانيّة، وكلّ فرد فيه مُنح قوة الإرادة والفطنة والذّكاء. ومع هذا، فإنّ الطّرق المختلفة التي تُؤدّى بها الوظائف المتّصلة بالحياة البيولوجيّة للإنسان تفسر لنا المبادئ الأساسيّة للكينونة والوجود. وأهمها مبدأ الوحدة والاتّحاد في التّنوع والتّعدد. ومن المفارقات الغريبة أنّ تماميّة الوحدة وتعقيد النّظام الذي يشكّل جسم الإنسان والذي تندمج فيه خلايا الجسم اندماجًا كاملًا هو ما يسمح  بالتّحديد لكلّ عنصر من العناصر التي تكوّنه بتحقيق كافّة قدراته المميّزة. فلا حياة للخليّة الواحدة بمعزل عن هذا الجسم الذي تنتمي إليه، أكان ذلك في ما تساهم به في تأدية وظائف الجسم، أم في ما تستمدّه بحصّتها من سلامة الجسم وعافيته ككيان موحّد واحد. فإذا ما تحقّقت للجسم وخلاياه هذه السّلامة والعافية، أصبح من الممكن التّطلع إلى هدف يحقّقه لوجوده يتمثّل في خلق الوعيّ الإنسانيّ – أيّ أنّ هدف النّمو البيولوجيّ أسمى من مجرد الكينونة الماديّة وضمان وجود الجسم وأعضائه وجودًا ماديًا.

        إنّ ما ينطبق على حياة الفرد له ما يناظره في المجتمع الإنسانيّ، فالجنس البشريّ كيان عضوي تامّ وهو أسمى مظهر للنّشوء والارتقاء. وحقيقة أنّ الوعي الإنسانيّ يعمل بالضّرورة من خلال تنوّع لا محدود للأفكار والحوافز الفرديّة، لا تنتقص بأيّ حال من الأحوال من وحدته الأساسيّة. وفي الواقع إنّ التّنوّع الفطريّ هو بالتّحديد ما يميّز الوحدة الحقّة عن التّماثل والتّجانس. وما تمرُّ به شعوب العالم اليوم – كما تفضل حضرة بهاءالله – إنّما هو وصولهم إلى مرحلة بلوغهم الجماعيّ؛ فمن خلال هذا النّضج الحاصل للجنس البشريّ سيجد مبدأ الوحدة والاتّحاد في التّنوع والتّعدد تعبيرًا كاملاً. فمنذ التّوجّهات الأوّليّة للإنسان نحو تقوية أركان الأسرة بدأت عمليّة اجتماعيّة نجحت في نقل الإنسان من بِنيات العشيرة البسيطة والقبيلة إلى أشكال عدّة من مجتمع المدينة، وتطوّر الأمر إلى أن وصل إلى كيان الدّولة. وكلّ مرحلة كانت تمدّه بذخيرة نفيسة من فرص جديدة تُوظِّف البشرية فيها قدراتها.

        من الواضح أنّ ما أصاب الإنسانيّة من تقدّم وتطوّر لم يكن على حساب فرديّة الإنسان. فمع تزايد حركة التّنظيم الاجتماعيّ، اتّسع في مقابل ذلك مجال التّعبير عن القدرات الكامنة في كلّ إنسان. ولأنّ علاقة الفرد بالمجتمع علاقة تبادليّة، فإنّ التّحوّل المطلوب الآن يجب أن يأخذ طريقه من خلال وعي الفرد وتركيبة المؤسّسات الاجتماعيّة في آن معًا. وبالاستفادة من الفرص التي تمنحها عملية التّغيير الثّنائيّة هذه، ستتمكّن استراتيجيّة للتّنمية العالميّة من تحقيق هدفها. وما ذلك الهدف – في هذه المرحلة الحاسمة من التّاريخ – إلاّ إرساء دعائم متينة ودائمة يمكن أن تتشكّل على أساسها بالتّدريج حضارة عالميّة.

        إنّ إرساء مثل هذه القواعد للحضارة العالميّة يتطلب سنّ قوانين وإيجاد مؤسّسات عالميّة في طبيعتها وسلطتها. ولا يمكن للجهود أن تبدأ في هذا المجال إلا بالقناعة التّامة بوحدة الجنس البشريّ لدى صانعي القرار، وترويج المبادئ ذات الصّلة في الأنظمة التّعليميّة ووسائل الإعلام المختلفة. وبعد طيّ هذه المرحلة تكون عمليّة أخرى قد بدأت يمكن من خلالها جذب شعوب العالم للمشاركة في وضع أهداف مشتركة عامّة يلتزمون بتحقيقها. وبهذا التّوجّه الجّذريّ  الجديد فقط يحمون أنفسهم من شرور الخلافات المُزمنة، العرقيّة منها والدّينيّة. وبإشراق أنوار هذا الوعي فحسب، على أنهم شعب واحد، يستطيع سكّان الأرض أن يتجنّبوا أشكال الصّراع التي هيمنت على التّنظيم الاجتماعيّ في الماضي، فيبدأون في تعلّم سُبُل التّعاون والتّوافق. وقد كتب حضرة بهاءالله قائلاً: "... المقصود هو إصلاح العالم وراحة الأمم، وهذا الإصلاح وتلك الرّاحة لن يتحقّقا إلا بالاتّحاد والاتّفاق".

 

-۲-

        العدل هو القوّة الأوحد التي يمكنها أن تُترجِم تفتّح الوعي بوحدة الجنس البشريّ إلى إرادة جماعيّة تقيم الدّعائم الضّروريّة لحياة المجتمع الإنسانيّ بكلّ ثقة. إنّ عصرًا يتيح لسكان الأرض حريّة الوصول إلى المعرفة بكافّة أشكالها وأنواعها والأفكار بكلّ تعدّدها وتنوّعها، سيجد من العدل مبدأ حاكمًا يفرض نفسه على التّنظيم الاجتماعيّ النّاجح. وبتواتر أكبر من أي وقتٍ مضى، فإن المقترحات الرّامية لتطوير هذا الكوكب ينبغي أن تخضع في أهدافها لمعايير نزيهة ومجرّدة تتطلّبها العدالة.

        فالعدل في المستوى الفرديّ هو قوّة الرّوح الإنسانيّ التي تمكّن كلّ فرد من أن يميّز بين الحقّ والباطل. وفي نظر الحقّ، يؤكّد حضرة بهاءالله بأنّ الإنصاف هو "أحبّ الأشياء"، لأنّه يسمح لكلّ إنسان أن يرى الأشياء بعينه لا بعين الآخرين ويعرفها بمعرفته لا بمعرفة جاره أو جماعته. إنّه يدعو الفرد إلى توخّي الحياد في حُكْمه، والإنصاف في معاملته الآخرين، وبالتّالي يكون العدل هو رفيق دائم في مُجريات الحياة اليومية وإن كان حازمًا.

        وفي مستوى الجّماعة، فإنّ مراعاة العدل هو البوصلة التي لا غنى عنها في صنع القرار الجماعيّ، لأنّه السّبيل الوحيد نحو تحقيق وحدة الفكر والعمل. وبعيدًا عن تشجيع روح القصاص التي غالبًا ما تخفّت برداء العدل في العصور الماضية، فإنّ العدل هو التّعبير العمليّ عن الوعي بأنّ مصالح الفرد لها ارتباط وثيق بمصالح المجتمع إذا أريد للتّقدم البشريّ أن يتحقّق. وكلّما ازداد الاهتمام لأن يصبح العدل هاديًا للإنسانيّة في تفاعلاتها، كان ذلك باعثًا على تشجيع جوّ تشاوريّ يتيح المجال أمام دراسة الخيارات بكلّ تجرُّد، وانتقاء مسارات العمل المناسبة. وفي جوٍّ كهذا، فإنّ النّزعات الدائمة نحو التّلاعب والتّحزّب من المرجّح أن يقلّ تأثيرُها إلى أبعد الحدود في عمليّة صنع القرار وخروجها عن جادّة الصّواب.

        إنّ مقتضيات العدل اللاّزمة للتّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة عميقة واسعة. فالاهتمام  بالعدالة يحمي مهمّة تعريف التّقدّم من إغراءات التّضحية بمصالح غالبيّة عظمى من الجنس البشريّ، وحتى الكوكب بأسره، لصالح أقليّات تحظى بما يوفّره لها التقدّم التّكنولوجيّ من منافع ومزايا. فمراعاة العدالة عند وضع التّصاميم والخطط، تكفل عدم انحراف الموارد المحدودة عن غايتها بغية تنفيذ مشاريع دخيلة على الأولويّات الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة الأساسيّة لمجتمع ما. والأهمّ من ذلك، فإنّ برامج التّنميّة، التي تُعتبر عادلة ومنصفة في هدفها وتلبّي احتياجات المجتمع، هي فقط التي تحظى بالتزام جموع البشر الذين يعتمد عليهم تنفيذ أيّ مشروع.  فالصّفات الإنسانيّة كالأمانة، والرّغبة المخلصة في العمل، وروح التّعاون، تُسخَّر بكلّ نجاح لتحقيق أهداف جماعيّة بالغة التّعقيد عندما يثق كلّ فرد، بل في واقع الأمر كلّ مجموعة تتشكّل ضمن المجتمع، بأنّ تلك الأهداف تصونها معايير واحدة ويطمئنّ بأنّ الفائدة ستعمّ الجميع بالتّساوي.

وعليه فإنّ قضيّة حقوق الإنسان تقع في صُلب النّقاش الدّائر حول استراتيجيّةٍ للتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. ووضع استراتيجيّة كهذه يدعو إلى التّرويج لتحرير حقوق الإنسان من قبضة ثنائيّات زائفة ظلّت أسيرتها ردحًا طويلًا من الزّمن. إنّ الحرص على حقّ كلّ فرد بالتّمتّع بحريّة الفكر وحريّة العمل، الّلازميْن لنموّه الشّخصيّ، لا يبرّر الالتزام بمذهب الفردانيّة (cult of individualism) الذي يُفسد إلى حدّ كبير الكثيرَ من مناحي الحياة المعاصرة. كما أنّ الحرص على ضمان خير المجتمع ورخائه ككلّ لا يتطلّب تأليه الدّولة باعتبارها المصدر المفروض فيه تأمين خير البشريّة. بل إنّ الأمر عكس ذلك تمامًا؛ فتاريخ القرن الحاضر يبيّن بكلّ وضوح وجلاء أنّ أمثال هذه الأيديولوجيّات، والبرامج الحزبيّة التي تنشأ عنها، هي نفسها العدو الصائل للمصالح التي ادّعت خدمتها. ولن يكون بمقدور كافّة مناحي الاهتمامات بحقوق الانسان أن تجد لها تعبيرًا مشروعًا وخلاّقًا إلاّ ضمن إطار تشاوريّ ناشئ بفضل الوعي بالوحدة العضويّة للعالم الانسانيّ.

واليوم، فإنّ المنظّمة الدّوليّة التي أوكلت إليها مهمّة وضع هذا الإطار وتحرير عمليّة ترويج حقوق الإنسان من نير أولئك الذين يستغلّونها، نراها وليدة نظام مؤسّسات عالميّة قامت على أنقاض حربين عالميّتين مدمّرتين، وخبرة نظام اقتصاديّ تتداعى أركانه في جميع أنحاء العالم. والجدير بالذّكر أنّ مصطلح "حقوق الإنسان" قد جرى استعماله عامّة فقط منذ الإعلان عن ميثاق الأمم المتّحدة عام 1945، وتبنّي الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذي تلاه بسنوات ثلاث. وفي هذه الوثائق التي تصنع التّاريخ تمّ الاعتراف رسميًّا بأنّ مراعاة "العدالة الاجتماعيّة" أمر ملازم لإقامة دعائم السّلام العالميّ. وحقيقة أنّ قبول الجمعيّة العموميّة لهذا الإعلان قد تمّ بالإجماع دون أيّ صوت معارض، منحها منذ البداية سلطة نمت باطّراد في السّنوات اللاّحقة.

إنّ أكثر ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوعي الذي يميّز الطّبيعة البشريّة هو تحرّي الفرد الحقيقة بنفسه. فالحرّيّة في التّحرّي عن الهدف من الوجود، وتنمية المواهب والقدرات المكنونة في طبيعة الإنسان التي تمكّنه من ذلك، إنّما تحتاج أن تُصان. فالإنسان يجب أن يكون حرًّا في اكتساب المعرفة. وكون حرّية كهذه غالبًا محطّ سوء استخدام، وكون سوء الاستخدام هذا قد شجّعته إلى حد بعيد مظاهر المجتمع المعاصر، لا ينتقص على الإطلاق من شرعيّة الدّافع الغريزيّ للإنسان نحو المعرفة.

إنّه ذلك الدّافع الغريزيّ المميّز للوعي البشريّ الذي يوفر القاعدة الخُلُقية التي يرتكز عليها إعلان الكثير من الحقوق التي تَضمّنها الإعلان العالميّ وما تبعه من المواثيق ذات الصّلة. فالتّعليم العموميّ، وحريّة التّنقّل، والحصول على المعلومات، وفرص المشاركة في الحياة السّياسيّة، كلّها جوانب من عمل هذا الدّافع الغريزيّ التي تحتاج إلى ضمان واضح ومحدّد من قِبَل المجتمع الدوليّ. ويصدُقُ الشيء نفسه على حريّة الفكر والعقيدة، بما فيها الحريّة الدّينيّة، إلى جانب الحقّ في قبول آراءٍ والتّعبير عنها بشكل مناسب.

وحيث أنّ الهيئة البشريّة كيان موحّد لا يتجزّأ، فإنّ كلّ فرد من الجنس البشريّ يولد في هذا العالم إنّما يُعتبر أمانة في عنق البشريّة ككلّ. وهذه الوصاية تشكّل الأساس الأخلاقيّ لمعظم الحقوق الأخرى الممنوحة – بالدّرجة الأولى الاقتصاديّة منها والاجتماعيّة - والتي تسعى أجهزة الأمم المتّحدة إلى تحديدها وتوضيحها. كما تتضمّن هذه الوصاية، أمن الأسرة والمنزل، وتملّك الأملاك، والحقّ في حُرمة الخصوصيّة. وتمتد مسؤولية المجتمع لتشمل: توفير فرص العمل، والرّعاية الصحيّة والنفسيّة، والضمان الاجتماعيّ، والأجور العادلة، والرّاحة والتّرويح عن النّفس، والكثير مما يطمح إليه أفراد المجتمع من متّطلبات معقولة.

        إنّ مبدأ الوصاية الجماعيّة يوجد أيضًا الحق لكلّ فرد في أن يتطلّع إلى أن يوفر القانون الوطنيّ والدوليّ الحماية لتلك الظّروف الثّقافيّة التي تلعب دورًا أساسيًّا في إثبات هويّته. وتمامًا كما أنّ للمخزون الجينيّ دورًا يلعبه في الحياة البيولوجيّة للإنسان وبيئته، كذلك الأمر في الثّروة الهائلة من التّنوّع الثقافيّ التي تجمّعت عبر آلاف السّنين، فهي أمر حيويّ للتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة لجنس بشريّ يشهد طلوع فجر بلوغه الجماعيّ. وتمثّل هذه الثّروة الثّقافيّة ميراثًا يجب أن يُفسَح له المجال كي يؤتي أُكُلَه في إطار حضارة عالميّة. فمن جهة، تحتاج أشكال التّعبير الثقافيّ إلى الحماية من الاختناق بفعل تأثيرات الماديّة الجامحة، ومن جهة أخرى يجب إتاحة الفرصة للثّقافات للتّفاعل مع بعضها البعض ضمن أنماط من الحضارة دائمة التّغيّر ومتحرّرة من التّلاعب لصالح غايات سياسيّة حزبيّة.

يتفضّل حضرة بهاءالله بقوله الكريم: "العَدْلُ سِرَاجُ الْعِبَادِ فَلاَ تُطْفِئُوهُ بِأَرْيَاحِ الظُّلْمِ وَالاعْتِسَافِ الْمُخَالَفَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ظُهُورُ الاتِّحَادِ بَيْنَ الْعِبَادِ. وَفِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا تَمَوَّجَ بَحْرُ الْحِكْمَةِ الإِلَهِيَّةِ وَإِنَّ دَفَاتِرَ الْعَالَمِ لاَ تَكْفِي تَفْسِيرَهَا."

-۳-

        من أجل ترويج معيار حقوق الإنسان الذي تجري صياغته حاليًّا من قبل المجتمع الدوليّ وترسيخه كغيره من المعايير الدّوليّة السّائدة، فإنّنا بحاجة إلى إعادة النّظر جذريًّا في تعريفنا للعلاقات الإنسانيّة. فالمفاهيم المتداولة في يومنا هذا لما هو طبيعي ومناسب في العلاقات-علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقته بالطّبيعة، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة أفراد المجتمع بمؤسّساته- تعكس مستويات فهم تَوَصَّل إليها الجنس البشريّ خلال المراحل المبكّرة والأقلّ نضجًا من تطوّره. فإذا كانت البشريّة حقًا في مرحلة النّضج والبلوغ، وإذا كان كلّ سكان هذا الكوكب يشكّلون شعبًا واحدًا، وإذا كان للعدل أن يكون المبدأ الحاكم في المنظومة الاجتماعيّة، فلا بدّ إذًا من إعادة صياغة المفاهيم القائمة التي هي وليدة الجهل بهذه الحقائق النّاشئة.

إنّ التّحرك في هذا الاتّجاه قد كاد أن يبدأ، ومع تقدّمه سيُفضي إلى مفهوم جديد عن طبيعة العائلة وحقوق كلّ فرد فيها ومسؤوليّاته. وسوف يُحدِث تغييرًا كليًّا في دور المرأة في المجتمع على كافّة المستويات، وسيكون تأثيره شاملًا في إعادة تنظيم علاقة النّاس بعملهم، وفي إدراكهم للموقع الذي يحتلّه النّشاط الاقتصاديّ في حياتهم، وسيُحدِث تغييرات بعيدة المدى في أسلوب إدارة الشؤون الإنسانيّة والمؤسّسات التي أوجدت للاضطلاع بأعبائها. وتحت تأثير هذه الحركة يصبح عمل المنّظمات غير الحكوميّة، التي يزداد عددها بسرعة داخل المجتمع، منطقيًّا ومُبرَّرًا أكثر فأكثر. كما أنها ستضمن سَنَّ تشريعات ملزِمة من شأنها حماية البيئة واحتياجات التّنمية لجميع الشّعوب في آن معًا. وفي نهاية المطاف، فإنّ ما أنتجته هذه الحركة، سواء في إعادة هيكلة منظومة الأمم المتحدة أم في إحداث التّحوّل فيها، سيقود بلا شك إلى تأسيس اتّحاد عالميّ للأمم بأجهزته التّشريعيّة والقضائيّة والتّنفيذيّة.

إنّ محور مهمّة إيجاد مفهوم جديد لنظام العلاقات الإنسانيّة هو العمليّة التي أشار إليها حضرة بهاءالله بـ "المشورة"، حيث ينصح قائلاً: "تمسّكوا بالمشورة في جميع الأمور"، "وما نضوج موهبة الإدراك إلاّ بالمشورة"".

        إنّ معيار تحرّي الحقيقة الذي تقتضيه عمليّة المشورة هذه لهو بعيد كلّ البعد عن أنماط التّفاوض والتّسوية التي تَسِم النّقاش الجاري في الشّؤون الإنسانيّة في الوقت الحاضر. ولا يمكن تحقيق هذا المعيار من خلال ثقافة المعارضة التي أضحت سمة سائدة أخرى على نطاق واسع في مجتمع اليوم- وفي الواقع، فإنّ هذه الثّقافة تعوّق تحقيقه بشدّة. فأسلوب المناظرة والدّعاية المغرضة والمنهج القائم على المعاداة والمناوئة وكلّ أجهزة التّيارات الحزبيّة على اختلافها – والتي ظلّت لفترة طويلة من الملامح المألوفة للعمل الجماعيّ – كلّها ضارّة أساسًا بالهدف المنشود، ألا وهو التّوصّل إلى إجماع في الآراء حول حقيقة حالة معيّنة، واختيار الإجراء الأكثر حكمة ضمن الخيارات المتاحة في أيّ وقت من الأوقات.

        إنّ ما يدعو إليه حضرة بهاءالله هو عمليّة تشاوريّة يسعى فيها الأفراد المشاركون جاهدين ليتجاوزوا وجهات نظرهم الشّخصيّة، كي يعملوا كأعضاء هيئة واحدة لها مصالحها وأهدافها الخاصّة. وفي جوّ كهذا، يتميّز بالصّراحة والأدب في آن معًا، لا تكون الأفكار التي يطرحها الفرد أثناء النّقاش ملكًا له، بل للمجموعة؛ في قبولها أو رفضها أو تعديلها بشكل أفضل يخدم الهدف المنشود. وأقصى ما تُحقّقه المشورة من نجاح يكون عندما تجد القرارات التي يتمّ التّوصّل إليها دعمًا من كافّة المشاركين بغضّ النّظر عن آرائهم الفرديّة قبل دخولهم في النّقاش. وفي ظروف كهذه يمكن إعادة النّظر بسهولة في قرار سابق إذا أثبتت التّجربة قصورًا فيه.

وفي ضوء رؤية كهذه، تكون المشورة هي التّعبير العمليّ عن العدالة في الشّؤون الإنسانيّة. وكم هي عمليّة بالغة الحيويّة في نجاح المساعي الجماعيّة بحيث يجب أن تشكِّل مظهرًا أساسيًّا لاستراتيجيّة قابلة للتّطبيق للتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة. حقًّا، إنّ مشاركة النّاس الذين يعتمد على التزامهم وجهودهم نجاحُ استراتيجيّة كهذه، تغدو فاعلة فقط عندما يتّخذون من المشورة مبدأ أساسيًا في تنظيم كلّ مشروع. وكما تفضل حضرة بهاء الله: "قل لا إنسان إلاّ بالإنصاف ولا قوّة إلا بالاتّحاد ولا خير ولا سلامة إلاّ بالمشورة".

-٤-

        أمّا المهام التي تتطلّبها تنمية مجتمع عالميّ فتحتاج إلى مستويات أعلى من القدرة تتعدّى ما حشده الجنس البشريّ من قبل، والوصول إلى هذه المستويات يستدعي توسّعًا هائلًا في مجالات وصول الأفراد والمؤسّسات الاجتماعيّة على السّواء إلى المعرفة بكلّ حرّيّة. فالتّعليم العموميّ سيكون عاملًا مساهمًا لا غنى عنه في هذه العمليّة من بناء القدرة، ولن يُكتب النّجاح للمجهودات في هذا الميدان إلاّ في إعادة تنظيم الشّؤون الإنسانيّة بحيث يتمكّن الأفراد والجماعات، في كلّ قطاع من قطاعات المجتمع، من اكتساب المعرفة وتوظيفها في تشكيل الشّؤون الإنسانيّة.

لقد اعتمد الوعي الإنسانيّ، على مرّ التّاريخ المدوّن، على نظامين أساسيّين للمعرفة تمّ من خلالهما التّعبير عن إمكاناته الكامنة تدريجيًّا، هما العلم والدّين: فنُظّمت بفضلهما خبرة الجنس البشريّ، وفُسّر ما يحيط به، واستُكشفت طاقاته الكامنة، وضُبطت حياته الأخلاقيّة والفكريّة. وهذان المصدران للمعرفة كانا بمثابة المنشأ الحقيقيّ للحضارة. وبالاستفادة من الإدراك المكتسب من تجاربنا السّابقة، يغدو واضحًا، علاوة على ذلك، أنّ تأثير هذين المصدرين التوأم كان أكبر خلال تلك الفترات التي تمكّن أثناءها الدّين والعلم أن يعملا معًا، كلّ في مجاله الخاص، وبكلّ توافق وانسجام.

إنّه نظرًا لما يتمتّع به العلم في الوقت الرّاهن من احترام عالميّ، فلا حاجة هناك للإسهاب في توثيق ذلك. وفي سياق أيّ استراتيجيّة للتّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، فإنّ القضيّة مدار البحث هي كيفيّة تنظيم النّشاط العلميّ والتكنولوجيّ. فإذا كان مثل هذا النّشاط حِكْرًا بصورة رئيسيّة على نخبة معروفة تعيش في عدد قليل من الأقطار، فمن الواضح أن الهُوّةَ الهائلة التي سبق أن أوجدها مثل هذا التّرتيب بين أغنياء العالم وفقرائه تزداد عمقًا مع ما يتأتّى عنها من عواقب وخيمة تحيق بالاقتصاد العالميّ، وهذا ما نشهده في وقتنا الحاضر. وفي الحقيقة، لو استمرّت نظرتنا إلى السّواد الأعظم من الجنس البشريّ كمستهلكين رئيسيّين لمنتجات العلم والتّكنولوجيا المبتكرة في أقطار أخرى، فإنّ البرامج التي توضع ظاهريًّا لخدمة احتياجاتهم لا يمكن أن تسمّى برامج "إنمائية" بأيّ شكل من الأشكال.

فالتّحدي الرّئيس والهائل، إذًا، يكمن في التّوسّع في النّشاط العلميّ والتكنولوجيّ. فلا تسخَّر آليات التّغيير الاجتماعيّ والاقتصاديّ وأدواته القويّة الفاعلة لتكون حِكرًا على قطاعات ذات أفضليّة في المجتمع، بل يجب تنظيمها بحيث تطال كافّة الأفراد وتشملهم أينما كانوا حتى يجدوا طريقهم إلى المشاركة فيها كلٌّ حسب قدراته. وبصرف النّظر عن إيجاد برامج تتيح التّعليم اللازم لكلّ من يستطيع الانتفاع منها، فإنّ إعادة تنظيم كهذه ستتطلّب إنشاء مراكز حيويّة للتّعليم في كافّة أرجاء العالم، وهي مؤسّسات ستعّزز قدرة شعوب العالم للمشاركة في توليد المعرفة وتطبيقها. ومع أنّ استراتيجيّة التّنمية تقرّ بالاختلافات الشّاسعة بين القدرات الفرديّة، إلاّ أنّها يجب أن تتبنّى هدفًا رئيسًا يتمثّل في إتاحة فرص متكافئة لسكّان الأرض جميعهم للحصول على العلوم والتّكنولوجيا لأنّ هذا هو حقّهم الطبيعيّ المشترك. إنّ الحجج والذّرائع التي ألِفْناها للحفاظ على الوضع الرّاهن قد أخذت تتضاءل بالتّدريج يوميًّا أمام الثّورة المُتسارعة في تكنولوجيا الاتّصالات التي تضع المعلومات والتّعليم في متناول أعداد كبيرة من النّاس حول العالم حيثما كانوا وكيفما كانت خلفيّاتهم الثّقافيّة.

إنّ ما يواجه البشريّة في حياتها الدينيّة من تحدّيات، وإن كانت مختلفة شكلًا ومضمونًا، فهي بالمثل مُرعبة ومروّعة. ففكرة أنّ الطبيعة الإنسانيّة لها بُعْدُها الرّوحاني – وأنّ جوهرها في الواقع روحانيّ- هي حقيقة يسلّم بها السّواد الأعظم من سكان العالم ولا تحتاج إلى برهان، بل هي إدراك لواقع يشهد به ما خلّفته لنا أقدم الحضارات، وما غرسته في أعماقنا تعاليم الأديان العظيمة كلّها منذ آلاف السّنين. فإنجازاتها الباقية في ميدان التّشريعات وسنّ القوانين، وفي عالم الفنون الجميلة، ثمّ تهذيب العلاقات الإنسانيّة، كلّها أعطت للتّاريخ معناه ومغزاه. ولا يمكن إخفاء تأثيرها اليوميّ على حياة معظم النّاس على وجه الأرض بشكل أو بآخر، ذلك لأنّ الأحداث الدراميّة التي نشهدها اليوم في جميع أنحاء العالم ما هي إلا دليل على أنّ نار التَّوْق التي تُوقِدها حَمِيَّة أصحابها لا يُطْفَأ أُوارُها أو يُحدُّ من غَلوائها.

وعليه، فما يبدو جليًّا أنّ الجهود المبذولة لتعزيز التّقدّم البشريّ، مهما تنوّعت، عليها الاستفادة من قدرات كهذه- شاملة وإبداعيّة على نحو فائق. فلماذا إذًا لم تكن المسائل الروحانيّة التي تواجه البشريّة محورًا في حوار التّنمية؟ بل لماذا تمّ تحديد أكثر الأولويّات- بل وأكثر الفرضيّات الأساسيّة - من برامج التّنمية الدوليّة حتى الآن، مِن خلال وجهات نظر العالم الماديّة التي تؤيّدها أقليّات ضئيلة من سكّان الأرض؟ وما هو الوزن الذي سيُعطَى لولاء ظاهريّ لمبدأ المشاركة العالميّة يُنكر على المشاركين شرعيّة تجاربهم الثّقافيّة التي تُحدّد هويّتهم؟

        يمكن إقامة الحجّة والبرهان بأنّ الشّؤون الرّوحانيّة والأخلاقيّة، كونها ارتبطت طوال تاريخها بعقائد دينيّة مثيرة للجدل وغير قابلة للحوار والنّقاش لإثباتها موضوعيًّا، قد نُحيّت جانبًا خارج إطار اهتمامات تّنمية الجامعة الدّوليّة. إنّ منحها أيّ دور هام سيكون تحديدًا بمثابة فتح المجال أمام نفوذ نفس تلك العقائد المذهبيّة المتزمّتة التي غذّت الصّراعات الاجتماعیّة وحالت دون تّقدُم البشريّة. ولا شكّ أنّ هذا الإثبات فيه جانب من الحقيقة. إنّ دعاة الأنظمة الدينيّة في العالم على اختلافها يتحمّلون جانبًا كبيرًا من المسؤوليّة، ليس في تشويه صورة حقيقة الدّين في أذهان الكثير من المفكّرين التقدمييّن فحسب، بل في ما حدث من إعاقة وتحريف في حوار البشريّة المستمرّ حول المعاني والمفاهيم الرّوحانيّة أيضًا. ومع ذلك، فإنّ الاستنتاج بأنّ الحلّ يكمُن في إعاقة التّحرّي عن الحقيقة الرّوحيّة وتجاهل أعمق جذور الحوافز البشريّة هو وهمٌ بديهيٌّ لا جدال فيه. إنّ النّتيجة الوحيدة لما تمّ تحقيقه في التّاريخ الحديث من فرض مثل هذه الرّقابة هو أنّ تشكيل مستقبل البشريّة قد سُلِّم إلى يد معتقد جديد (new orthodoxy)، معتقد يقيم الحجّة بأنّ الحقيقة خارجة عن الصفة الأخلاقيّة وأنّ الواقع مستقلّ عن القيم.

        ومنذ وجود الإنسانيّة على وجه البسيطة، فإنّ كثيرًا من الإنجازات الفائقة التي حققها الدّين كانت أخلاقيّة في جوهرها، فبالتّعاليم الإلهيّة التي جاء بها، ونموذج حياة الذين تنوّرت قلوبهم بفضلها، فإنّ جماهير النّاس، على مرّ العصور وفي مختلف الأصقاع، قد نمت لديهم ملكة حبّ الآخرين. لقد تعلّموا أن يضبطوا الجانب الحيوانيّ في طبيعتهم، ويقدّموا تضحيات كبيرة من أجل الخير العامّ، ويمارسوا فضيلة التّسامح والكرم والثّقة، ويُسَخِّروا الثّروة والموارد الأخرى في سبيل تقدّم الحضارة الإنسانيّة ورقيّها. فوُضعت النّظم المؤسّسيّة حتى تترجم هذه التّرقيّات الأخلاقيّة إلى مبادئ وقواعد سلوكيّة للحياة الاجتماعيّة على نطاق واسع. وبالرّغم من أنّ العقائد المتزمّتة قد حجبتها، والنّزاعات الطّائفيّة قد حرفتها عن مسارها، إلاّ أنّ البواعث الرّوحانيّة التي أطلقتها المظاهر الإلهيّة، مثل كريشنا وموسى وبوذا وزرادشت والمسيح ومحمد، كان لها التّأثير الرئيس في تهذيب الطّبيعة الإنسانيّة.

        وحيث أنّ التّحدي الآن هو تمكين الجنس البشريّ من خلال زيادة واسعة في سُبُل الحصول على المعرفة، فالاستراتيجيّة التي تجعل من ذلك أمرًا ممكنًا يجب أن تقوم على حوار مكثّف مستمر بين العلم والدّين. ومن البديهيّ – أو على الأقلّ ما يجب أن يكون واضحًا الآن – أنّ البصائر والمهارات المتأتِّية عن الإنجازات العلميّة، في كافّة مجالات النّشاط الإنسانيّ ومستوياته، يجب أن تعتمد على قوّة الالتزام الروحانيّ، وأن تراعي المبدأ الأخلاقيّ لضمان حسن استخدامها وتطبيقها. وعلى سبيل المثال، يجب أن يتعلّم النّاس كيف يفرّقون بين الحقيقة والظّن، وأن يميّزوا في الواقع بين وجهات النّظر الشّخصيّة والحقيقة الموضوعيّة المحايدة؛ فالمدى الذي يستطيع به الأفراد والمؤسسات المجهّزة لهذه الغاية أن يساهموا في تقدّم الإنسانيّة يعتمد حقًا على درجة التزامهم بالحقيقة ومدى تحرّرهم من أهواء أنفسهم ومنافعهم الشّخصيّة. وهناك مقدرة أخرى على العلم أن ينمّيها لدى كافّة الناس، وهي التّفكير من منطلق مفهوم كلمة عمليّة (process) ومن ضمنها العمليّة التّاريخيّة. وعلى كلّ حال، فإذا ما كان لهذا التّقدم الفكريّ أن يساهم في النّهاية في دفع عجلة التّنمية إلى الأمام، فمن الواجب ألّا تتلبّد الأجواء المحيطة به بغيوم التّعصب العرقيّ والثقافيّ والجنسيّ والدّينيّ. وبالمثل، فإنّ التّدريب الذي يمكنه أن يتيح لسكان الأرض المشاركة في إنتاج الثّروة، سيعزّز أهداف التّنميّة فقط بالمقدار الذي يكون فيه مثل هذا الدّافع مستنيرًا بهذه البصيرة الرّوحانيّة وهي أنّ خدمة العالم الإنسانيّ هي غاية حياة الفرد والنّظام الاجتماعيّ على السّواء.

-٥-

وفي تناولنا القضايا الاقتصاديّة التي تواجه البشريّة اليوم حريّ بنا أن ننظر إليها في سياق رفع مستوى القدرة من خلال التّوسّع في نشر العلم والمعرفة على كافّة المستويات. فكما أثبتت تجارب العقود الأخيرة الماضية، لا يمكن أن تُعتبر المنافع والمساعي الماديّة غايات بحدّ ذاتها. فقيمتها لا تنحصر في تأمين الاحتياجات الأساسيّة للإنسان، من قبيل المسكن والمأكل والرّعاية الصحيّة وأمثالها فحسب، بل في زيادة القدرات الإنسانيّة وبسط مداها أيضًا. وعليه، فإنّ أهمّ دور يجب أن تقوم به الجهود الاقتصاديّة في عمليّة التّنميّة يكمن في تجهيز الأفراد والمؤسّسات بالوسائل التي تمكّنهم من تحقيق الهدف الحقيقيّ للتّنمية: وهو وضع الأسس لنظام اجتماعيّ جديد قادر على رعاية الإمكانات اللاّمحدودة الكامنة في الوجدان والوعيّ الإنسانيّ.

إنّ التّحدّي الذي يواجهه الفكر الاقتصاديّ هو قبول هدف التّنمية هذا عن قناعة تامّة ودون تحفّظ، والدّور الذي يضطلع به للمساعدة في إيجاد وسائل تحقيقه. وبهذا الأسلوب دون غيره يمكن لعلم الاقتصاد وما يدور في فلكه من علوم أن يحرِّر نفسه من تيّار الشّواغل الماديّة الذي يجرفه اليوم بعيدًا عن مساره، فيسخّر كل ما لديه من إمكانات كامنة لتصبح أدواتٍ حيويةً لتحقيق رخاء البشريّة بكلّ ما في الكلمة من معنى. وهنا تغدو الحاجة إلى حوار دقيق وجازم بين ما يفعله العلم وما يراه الدّين ببصيرته النّافذة أكثر وضوحًا من أيّ موضع آخر.

ومعضلة الفقر مثال على ذلك. فالحلول المطروحة لمواجهتها تقوم على القناعة بأنّ الموارد الماديّة متوفرة أو يمكن توفيرها بفضل المساعي العلميّة والتكنولوجيّة التي من شأنها التّخفيف من وطأتها، ومن ثمّ القضاء تمامًا على هذه المشكلة المزمنة التي شكّلت أحد مظاهر الحياة البشريّة منذ القِدَم. وأحد الأسباب الرّئيسة في عدم تحقّق هذا الانفراج يكمن في أنّ التّقدّم العلميّ والتّكنولوجيّ الضّروريّ يلبّي مجموعة من الأولويّات المتعلّقة بسطح الاحتياجات الفعليّة للسّواد الأعظم من الجنس البشريّ، لا عمقها. وعليه، فإنّنا بحاجة إلى إعادة ترتيب جذريّ لهذه الأولويّات إذا ما أردنا أن نرفع عن كاهل البشريّة نهائيًّا أعباء الفقر. وإنجاز كهذا يستدعي البحث عن قِيَم مناسبة بكلّ عزم وتصميم، بحثًا سيضع الموارد الروحانيّة والعلميّة للجنس البشريّ في بوتقة الامتحان. وسيظلّ الدّين مقيّدًا على نحو كبير في أداء دوره في هذه المهمّة المشتركة ما دام حبيس العقائد الطائفيّة التي لا تستطيع التّمييز بين الرّضا والتّسليم وبين الاستسلام، وتلقّن أنّ الفقر هو سمة ملازمة للحياة الدّنيا ولا سبيل للخلاص منه إلاّ في العالم الآخر. ومن أجل مشارکة فعّالة في الكفاح لتحقیق الرّخاء المادّي للبشریّة فإنّ على الدّين أن يجد في نفس مصدر الإلهام الذي نبع منه في البداية، مفاهیم ومبادئ روحانيّة جديدة تناسب عصرًا يسعی وراء الوحدة والعدالة في كافّة الشّؤون الإنسانیّة.

        وآفة البطالة أيضًا تثير قضايا مماثلة. ففي معظم مدارس الفكر المعاصر نجد أنّ مفهوم العمل لدى الغالبيّة قد انحدر إلى حدّ كبير لينحصر في البحث عن وظيفة مجزية مادّيًا تتيح لها الحصول على السّلع المتوفرة. وعليه، فإنّ النّظام الحاليّ يدور في حلقة متّصلة من الشّراء والاستهلاك اللذين يؤديّان إلى الحفاظ على إنتاج السّلع وتوسيعه، الأمر الذي يُفضي إلى دعم عمل مدفوع الأجر. إنّ كلّ واحدة من هذه الأنشطة - منفردةً – ضروريّةٌ لرخاء المجتمع، إلا أنّ عدم كفاية المفهوم ككلّ، يمكن ملاحظته فيما يلمسه المعلّقون الاجتماعيون من مشاعر الفتور واللاّمبالاة لدى أعداد كبيرة من المُستخدَمين في كلّ مكان إلى جانب تدنّي الرّوح المعنويّة الذي تشعر به الأرتال المتنامية من العاطلين عن العمل.

        ولهذا، فلا عجب أنّ هناك اعترافًا متزايدًا بأنّ العالم في أمسّ الحاجة إلى "أخلاقيّات عمل" جديدة. وهنا مرة أخرى، لا شيء أقلّ من البصيرة النّافذة المتولّدة من التّفاعل الخلّاق بين نظاميّ المعرفة، أيّ العلم والدّين، يمكنه أن يضع أساسًا متينًا لإعادة تكييف ما اصطبغت به حياتنا من عادات ومواقف. فالإنسان على نقيض تامّ مع الحيوان الذي يعتمد في بقائه على ما تجود به بيئته. أمّا النّوع الإنسانيّ فهو يميل بطبيعته إلى التّعبير عن قدراته الهائلة الكامنة فيه بالعمل المنتج الذي يهدف إلى تلبية احتياجاته واحتياجات الآخرين. وهكذا يصبح الأفراد شركاء في عمليات تقدُّم الحضارة مهما كان مستوى مساهمتهم متواضعًا، ويحقّقون بذلك أهدافًا تُوحِّدهم مع الآخرين. والعمل الذي يؤدَّى عن وعي بروح الخدمة الإنسانيّة يصفه حضرة بهاء الله بأنّه نوع من العبادة لله الحقّ، وكلّ فرد لديه القدرة على رؤية نفسه في ضوء هذا المفهوم. ولهذه القدرة، التي لا انفكاك لها عن نفس الإنسان، ينبغي أن تروق استراتيجيّة التّنمية - أيًّا كانت طبيعة الخطط التي تجري متابعتها ومهما بلغت المكافآت التي تَعِد بها. إنّ أيّ استراتيجيّة ذات منظور أضيق من هذا لن تفلح في مناشدة النّاس لحشد ذلك الجهد والالتزام الهائليْن اللذين تتطلّبهما المهام الاقتصاديّة المقبلة.

        وتحدٍّ آخرُ مشابهٌ في طبيعته يواجه الفكر الاقتصاديّ نتيجة الأزمة البيئيّة. فالمغالطات في النّظريّات القائمة على الاعتقاد بأن لا حدود لإمكانات الطّبيعة ومواردها لتلبية أيّ مطالب يفرضها الإنسان، أصبحت مكشوفة للعيان دون جدال. فالثّقافة التي تعلّق أهمية قصوى على التّوسّع والتّملّك وتلبية رغبات الإنسان مُجبرةٌ على الاعتراف بأنّ مثل هذه الأهداف بحدّ ذاتها ليست مرشِدًا واقعيًّا في وضع السّياسة العامّة، وفي الوقت نفسه فإنّ مقاربات المسائل الاقتصادیّة لن تکون کافیة أيضًا إذا فشل صنّاع قراراتها في التّعامل مع حقيقة أنّ التّحدیّات الرئيسة عالمیّة في معظمها لا محليّة.

إنّ الأمل الوطيد المعقود على إمكانيّة مواجهة هذه الأزمة الأخلاقيّة بتأليه الطّبيعة نفسها لهو مظهر من مظاهر الإفلاس الرّوحيّ والفكريّ الذي ولّدته الأزمة نفسها. فالإقرار بأنّ الخَلق بأكمله هو كيان عضويّ واحد، وأنّ الإنسانيّة مسؤولة عن رعاية هذا الكيان، مهما كان مرحّبًا به، لا يشكّل نفوذًا يستطيع بحدّ ذاته أن يغرس في ضمائر الشّعوب نظامًا جديدًا للقيم. فلا شيء سوى اختراق تقدّميّ للمفاهيم، علميّ وروحانيّ بكلّ ما في الكلمة من معنى، سيمکّن الجنس البشريّ من تولّي وصایة قيادته في الاتّجاه الذي يمليه التّاريخ.

وعلى شعوب الأرض أن تستعيد، عاجلًا أم آجلًا، وعلى سبيل المثال، قدرتها على القناعة والرّضا، والانضباط الأخلاقيّ، والتّفاني في أداء الواجب، والتي كانت حتى وقت قريب نسبيًا تُعتبر من المظاهر الأساسيّة الدّالة على إنسانيّة الإنسان. وعلى مرّ التّاريخ تمكّنت تعاليم مؤسّسي الأديان العظيمة، مرارًا وتكرارًا، أن تغرس هذه السّجايا الإنسانيّة في جموع معتنقيها الذين تقبّلوها. بل وإنّ هذه الصّفات نفسها اليوم لهي أكثر أهميّة وحيويّة، إلا أنّ التّعبير عنها الآن يجب أن يأخذ شكلًا يتناسب مع بلوغ البشريّة. وهنا مرّة أخرى، فإنّ التّحدّي الذي يواجه الدّين يكمن في تحريره مما تسلّط عليه في الماضي من أوهام وأباطيل؛ فالتّسليم والرّضا لا يعنيان الإيمان بالقضاء والقَدَر، والتّمسّك بالمبادئ الأخلاقيّة لا يمتّ بأيّ صلة إلى حياة الزّهد والتّزمّت البيوريتاني (life-denying puritanism) التي غالبًا ما تُعرّف نفسها باسم الأخلاقيات، والتّفاني الصادق في العمل لا يجلب لصاحبه الشّعور بأنّه أقْوَمُ أخلاقًا من الآخرين بقدر ما يشعره بقيمته وقدره.

لا يزال تأثير الإنكار المستمرّ للمساواة التّامّة بين المرأة والرّجل، يزيد من شدّة وضوح التّحدّيات التي تواجه العلم والدّين في الحياة الاقتصاديّة للبشريّة. والمراقب المتجرّد يرى مبدأ المساواة بين الجنسين أساسًا لكلّ تفكير عقلانيّ واقعيّ حول مستقبل خير ورفاهيّة هذا الكوكب وسكّانه، لأنّه يمثّل حقيقةً للطّبيعة البشريّة ظلّت غير معترف بها عبر العصور الطّويلة من طفولة الجنس البشريّ ومراهقته. ويؤكّد حضرة بهاء الله أن "النِّساءَ والرِّجالَ كانوا وَسَيَكونونَ أبَدًا مُتساوينَ في نَظَرِ اللهِ". فالرّوح الإنسانيّ ليس لها جنس محدّد، ومهما كان الظّلم الاجتماعيّ الذي فرضته متطلّبات البقاء في الماضي، فمن الواضح أنّ لا مبرّر لاستمراره في الوقت الحاضر والإنسانيّة تقف على عتبة مرحلة النّضج والبلوغ. إنّ الالتزام بتأسيس دعائم مساواة تامّة بين الرّجال والنّساء في كافّة مناحي الحياة وجميع المستويات الاجتماعيّة لهو أمر جوهريّ لنجاح الجهود الرامية إلى وضع استراتيجيّة للتّنمية العالميّة وتنفيذها.

وبتقدير أهميّة الموضوع، فإنّ التّقدُّم في هذا الميدان، يُعدّ، حقًّا، بحدّ ذاته مقياسًا لنجاح أيّ برنامج إنمائيّ. ونظرًا للدّور الحيويّ الذي يلعبه النّشاط الاقتصاديّ في تقدُّم المدنيّة، فسيكون الدليل الملموس على سرعة تقدّم التّنمية مدى ما يُتاح للمرأة من فرص للمشاركة في كافّة مناحي النّشاط الاقتصاديّ. إنّ التّحدي يتجاوز ضمان التّوزيع العادل للفرص، مع أهميّته، فهو يستلزم إعادة تفكير جذريّ في القضايا الاقتصاديّة على نحو يشجّع على المشاركة الكاملة لطيف من الخبرات والبصائر الإنسانيّة المستثناة من الحوار حتى الآن إلى حدّ كبير. فالنّماذج الاقتصاديّة التّقليديّة، من أسواق عامّة ليست لها أيّ صفة شخصيّة يعمل فيها النّاس كمنتجين مستقلّين يرجّحون منافعهم الشّخصيّة، لن تلبّي احتياجات عالم تدفعه مُثُل عليا من الوحدة والعدالة. فالمجتمع سيجد نفسه أمام تحدّيات متزايدة تدعوه إلى تطوير نماذج اقتصاديّة جديدة تشكِّلها بصائر تتولّد عن تفهّم متعاطف لتجربة مشتركة، والنّظر إلى البشر من خلال علاقة بعضهم ببعض، وتقدير الدّور المحوريّ للأسرة والمجتمع المحلي في تحقيق الرّخاء الاجتماعيّ. إنّ مثل هذا التّقدّم الفكريّ -الذي يرتكز بقوّة على الإيثار بدل الأنانيّة – يجب أن يكون جُلّ اعتماده على الإدراك الروحيّ والعلميّ للبشر على حدّ سواء، وعلى تجارب آلاف السّنين التي هيّأت المرأة لتساهم مساهمة هامّة في المجهودات المشتركة.

-٦-

إنّ التّأمّل في تحوّل اجتماعي على نطاق كهذا يثير مسألتين في آن معًا؛  القوّة التي يمكن تسخيرها لتحقيق هذا التّحوّل، والقضية التي ترتبط به ارتباطًا وثيقًا، ألا وهي السّلطة ذات الصّلاحيّة لاستخدام تلك القوّة. وكما هو الحال مع جميع الآثار الأخرى المترتّبة على عمليّة الاتّحاد والاندماج المتسارع للكوكب وسكّانه، فإنّ كلا هذين المصطلحيْن المألوفيْن بحاجة ماسّة إلى إعادة تعريفهما.

فعلى مرّ التّاريخ، اعتُبرت القوة إلى حدّ كبير، امتيازًا يتمتّع به الأشخاص أو الجماعات، وذلك بالرّغم من التّأكيدات المستلهمة من اللاهوتيّات أو الأيدولوجيّات التي دعت إلى خلاف ذلك. وفي الواقع، غالبًا ما كانت القوّة بكلّ بساطة تُستخدم سلاحًا ضدّ الآخرين. فمثل هذا التّعريف للقوّة قد أصبح صفة ملازمة لثقافة الفرقة والنّزاع التي وسمت البشريّة خلال عدّة آلاف من السّنين الماضيّة، بغضّ النّظر عن التّوجّهات الاجتماعيّة أو الدّينيّة أو السّياسيّة التي سادت أجزاء معيّنة من العالم في عصر من العصور. وبالإجمال فإنّ القوّة كانت صفة تميّز الأفراد والجماعات والشّعوب والطّبقات والأمم، ومقصورة على الرّجال دون النّساء. وكان أثرها الرّئيسيّ منْح أصحابها القدرة على الاستحواذ والتّفوّق والتّسلّط والمقاومة والغلبة.

إنّ العمليّات التّاريخيّة النّاشئة عن هذه الثقافة مسؤولة عن النّكسات المدمّرة في رخاء العالم الإنسانيّ، والتّقدّم الاستثنائيّ في المدنيّة في آن معًا. وحتى ندرك المنافع يجب أن نقرّ أيضًا بالنّكسات، وكذلك بالمحدوديّة الواضحة للأنماط السلوكيّة التي ولّدت هذين الأمرين. فالعادات والمواقف التي تتعلّق باستخدام القوّة، والتي برزت عبر العصور الطّويلة لطفولة البشريّة ومراهقتها، قد استَنْفدت ما لديها من تأثير وفعّالية. واليوم، في عصر باتت معظم مشاكله الملحّة عالميّة في طبيعتها، فإنّ الإصرار على فكرة أنّ القوّة تعني الامتياز لشرائح متعدّدة من العائلة البشريّة لهي فكرة خاطئة تمامًا من النّاحية النّظريّة، ولا تخدم التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة لهذا الكوكب من النّاحية العمليّة. وأولئك الذين لا يزالون يتمسّكون بهذه الفكرة –وكانوا يثقون بمثل هذا التّمسّك في العصور السّابقة- يجدون الآن أنّ خططهم قد وقعت في شَرَك الإحباط والعوائق المتعذّر تفسيرها. والقوّة، بمعناها التّقليديّ أيّ التّنافسيّ، لا علاقة لها بالاحتياجات المستقبليّة للبشريّة، تمامًا مثلما أنّ تكنولوجيا النّقل بالسّكّة الحديد لا علاقة لها مطلقًا بمهمّة إطلاق الأقمار الصناعيّة في مدارات حول الأرض.

إنّ هذا التّشبيه مناسب تمامًا؛ فمتطلّبات النّضج والبلوغ للجنس البشريّ تدفعه أن يحرّر نفسه من مفاهيمه الموروثة عن القوّة واستعمالها. والدّليل الذي يشهد بقدرة البشريّة على ذلك هو حقيقة أنّه، بالرّغم من هيمنة المفهوم التّقليديّ عليها، إلاّ أنّها كانت دائمًا قادرة على تصوّر القوّة بأشكال أخرى هامّة لتحقيق آمالها. ويقدّم لنا التّاريخ أدلّة كثيرة على أنّ النّاس من جميع الخلفيّات، وعلى مرّ العصور، قد تمكّنوا - ولو على نحو متقطّع ودون كفاءة- من الاستفادة من طيف واسع من الموارد الخلاّقة الكامنة فيهم. وقد يكون أوضح مثال على ذلك قوّة الحقيقة نفسها، وهي عامل التّغيير المقرون بعدد من أعظم إنجازات الجنس البشريّ في الفلسفة والدّين والفنون والعلوم. وتمثّل قوّة الشّخص الأخلاقيّة أيضًا وسيلة أخرى في حشد طاقات الإنسان الهائلة، وكذلك قوّة تأثير القدوة، سواء في حياة أفراد البشر أو المجتمعات الإنسانيّة. أمّا ما لم يتمّ  إدراك أهميّته بالكامل تقريبًا فهو عِظَم القوّة التي ستتولّد عن تحقيق الوحدة والاتّفاق، والتي سيكون لها تأثير، كما يتفضّل عنه حضرة بهاءالله، "يضيء وينير الآفاق".

إنّ نجاح المؤسّسات الاجتماعيّة في استخلاص الإمكانات الكامنة في وعي الشّعوب في العالم وتوجيهها، سوف يعتمد على المدى الذي تكون فيه ممارسة السّلطة خاضعة لمبادئ تتّفق مع المصالح المتطوّرة لجنس بشريّ يمضي سريعًا نحو البلوغ. مبادئ كهذه تتضمّن واجب المسؤولين في كسب الثّقة والاحترام والدّعم الحقيقيّ ممّن يريدون أن تكون أفعالهم ضمن نطاق حكمهم؛ والتّشاور بصراحة وعلى أوسع نطاق ممكن مع جميع الذين تتأثّر مصالحهم بالقرارات المتّخذة، وتقييم الحاجات الفعليّة وتطلّعات المجتمعات المحليّة التي يقومون على خدمتها بكلّ موضوعيّة؛ والاستفادة من التّقدم العلميّ والأخلاقيّ من أجل استخدام سليم لموارد المجتمع المحليّ، بما في ذلك طاقات أفراده. وليس لسلطة فاعلة ومؤثّرة من مبدأ أهمّ من إعطاء الأولويّة لإيجاد وحدة حقيقيّة بين أفراد المجتمع وأعضاء مؤسّساته الإداريّة والحفاظ عليها. هذا وقد تمّت الإشارة آنفًا إلى مسألة الالتزام بمراعاة العدل في جميع الأمور وثيقة الصّلة بالاتّحاد.

من الواضح، أنّ مبادئ كهذه لا يمكنها أن تعمل إلا وسط ثقافة ديمقراطيّة في أساسها روحًا ومنهجًا. إلاّ أنّ هذا لا يعني تأييد إيديولوجيّة التّحزّب التي انتحلت بكلّ جرأة اسم الديمقراطيّة في كلّ مكان، والتي، رغم مساهماتها المؤثّرة في تقدّم البشريّة فيما مضى، تجد نفسها اليوم غريقة مستنقع التّهكّم والشّك واللامبالاة والفساد الذي أوجدته. وفي اختياره لأولئك الذين سيتّخذون القرارت الجماعيّة نيابة عنه، لا يحتاج المجتمع إلى ما يجري حاليًّا على المسرح السّياسيّ من أساليب التّزكية والتّنصيب، والتّرشيح، والدّعاية الانتخابيّة، والاستعطاف، والتي برمّتها لا تُحْسن خدمة مصالحه. فجميع النّاس لديهم القدرة -عندما يتدرّجون في مراتب العلم والمعرفة ویقتنعون بأنّ البرامج المقترحة عليهم تخدم مصالحهم التّنموية - على تبنّي إجراءات انتخابیّة من شأنها أن تحسّن تدریجیًّا اختیار هیئات صنع القرار الخاصّة بهم.

ومع اكتساب عمليّة اتّحاد البشريّة واندماجها زخَمًا، يجب على الذين يُنتخبون بهذه الطريقة أن يرَوْا، وعلى نحو متزايد، جميع جهودهم من منظور عالميّ. وعلى المنتخَبين لإدارة شؤون البشريّة، ليس على المستوى المركزيّ فحسب بل وعلى المستوى المحلّي أيضًا، أن يعتبروا أنفسهم، كما أشار حضرة بهاءالله، مسؤولين عن خير وصلاح البشريّة جمعاء.

-٧-

إنّ مهمّة وضع استراتيجيّة عالميّة للتّنمية تعمل على تسريع بلوغ الإنسانيّة تشكّل تحدّيًا يتمثّل في إعادة هيكلة المؤسّسات الاجتماعيّة جذريًّا. والأنصار الذين يجابهون هذا التّحدّي هم سكان الكرة الأرضيّة قاطبة: أغلبيّة البشر، أعضاء المؤسّسات الحاكمة على جميع المستويات، العاملون في وكالات التّنسيق العالميّ، العلماء والمفكّرون الاجتماعيّون، وجميع أصحاب المواهب الفنيّة أو من يتمتّعون بحريّة الوصول إلى وسائل الإعلام والاتّصالات، ورؤساء المنظّمات غير الحكوميّة. فالاستجابة المطلوبة يجب أن يكون أساسها اعترافًا غير مشروط بوحدة الجنس البشريّ، والتزامًا بإقامة العدل بصفته المبدأ الذي يقوم عليه تنظيم المجتمع، وعزمًا جازمًا في استغلال أقصى حدّ من الإمكانات التي يمكن أن يوجدها الحوار المنهجيّ بين النّبوغ العلمي والدّيني للجنس البشريّ من أجل بناء قدرة البشر. وتتطلب هذه المبادرة إعادة التّفكير جذريًا في معظم المفاهيم والافتراضات التي تحكم الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في الوقت الحاضر، ويجب أن تكون مقترنة أيضًا بالإيمان القاطع بأنّه مهما طالت العمليّة هذه ومهما جابهتها من نكسات، فإنّ إدارة شؤون العالم الإنسانيّ يمكن توجيهها في مسارات تخدم الاحتياجات الحقيقيّة للبشريّة.

إنّه فقط، في حال وصول طفولة البشريّة الجماعيّة واقعيًّا إلى نهايتها، وشروع فجر عصر بلوغها بالبزوغ، يمكن لتصوّر كهذا أن يكون أكثر من وهم وسراب يوطوبيّ آخر. فالتّخيّل بأنّ جهدًا في هذا الاتّجاه، وعلى هذا القدْر من الجسامة التي تمّ تصوّرها في هذه الوثيقة، يمكن أن تتداعى له شعوب وأمم يائسة متخاصمة يبدو أمرًا لا يقبله عقل. واحتمال كهذا لا يمكن تصوّره، كما أكّد حضرة بهاءالله، ما لم تصل مسيرة التّطوّر الاجتماعيّ إلى أحد تلك المنعطفات الحاسمة من التّحوّل الذي يُجبر كلّ مظاهر الوجود، فجأة وعلى حين غِرَّة، على التّقدّم نحو مراحل جديدة من تطوّرها. إنّ الإيمان الرّاسخ بأنّ تحوّلًا عظيمًا يجري الآن في وعي النّاس قاطبة هو ما أَلْهَمَ الآراء الواردة في هذه الوثيقة. وجميع الذين يجدون لها صدىً مألوفًا في قلوبهم فإنّ كلمات حضرة بهاءالله تطمئنهم بأنّ الله سبحانه وتعالى قد وهب البشريّة في هذا اليوم المنقطع النّظير قوى روحانيّة تضارع هذا التّحدّي.

"يا مَلَأَ الأَرضِ وَالْسَّمآءِ قَد ظَهَر ما لا ظَهَرَ مِنْ قَبْلُ."

"هذا يوم الفضل الأعظم والفيض الأكبر."

        إنّ الاضطراب الذي يزلزل الآن أركان الشّؤون الإنسانيّة لم يسبق له مثيل، وكثير من عواقبه وخيمة مدمّرة، والأخطار التي تتكالب على إنسانيّة حائرة ذاهلة قد فاقت التّصور على مدى التّاريخ بأكمله. وأفدح خطأ يمكن أن يرتكبه قادة العالم في هذه المرحلة الحاسمة، أن يدَعوا الأزمات تلقي بظلال الشّك والرّيبة على النّتائج النّهائيّة للعمليّة التي تدور رحاها في العالم اليوم. فأمامنا عالم يفنى ويموت وعالم جديد يكافح كيّ يولد. والعادات والمواقف المتراكمة والمؤسّسات المتواجدة عبر القرون تخضع الآن لامتحانات ضروريّة من أجل تنمية وتطوّر البشريّة بقدر ما هي محتومة لا مناص منها. والمطلوب من شعوب العالم قدْرٌ من الإيمان والعزم يضارع الطّاقات الهائلة التي أنعم بها خالق كلّ شيء على هذا الرّبيع الروحانيّ للجنس البشريّ. وهذا هو ما نادى به حضرة بهاءالله:

"قل أن اتّحدوا في كلمتكم واتّفقوا في رأيكم واجعلوا إشراقكم أفضل من عشيّكم وغدكم أحسن من أمسكم. فضل الإنسان في الخدمة والكمال لا في الزّينة والثّروة والمال. اجعلوا أقوالكم مقدّسة عن الزّيغ والهوى وأعمالكم منزّهة عن الرّيب والرّياء. قل لا تصرفوا نقود أعماركم النّفيسة في المشتهيات النّفسيّة ولا تقتصروا الأمور على منافعكم الشّخصيّة. أنفقوا إذا وجدتم واصبروا إذا فقدتم. إنّ بعد كلّ شدّة رخاء ومع كلّ كدر صفاء. اجتنبوا التّكاهل والتّكاسل وتمسّكوا بما ينتفع به العالم من الصّغير والكبير والشّيوخ والأرامل. قل إيّاكم أن تزرعوا زؤان الخصومة بين البريّة وشوك الشّكوك في القلوب الصّافية المنيرة".