إحداث تحوّل في المداولات الجماعيّة: الاهتمام بقيم الوحدة والعدل

Statements

إحداث تحوّل في المداولات الجماعيّة: الاهتمام بقيم الوحدة والعدل

بيان الجامعة البهائية العالمية في الجلسة الثامنة والأربعين لمفوضيّة التنمية الاجتماعيّة حول الموضوع ذي الأولوية "التكامل الاجتماعي"

نيويورك، نيويورك—
٣ شباط/فبراير ·۱·۲

إنّ النموذج الملحّ  للتّداخل والتّكامل للثقافات في العالم والشعوب قد يكمن في خاصية التّشكيل والتّنسيق الذي يتسم بهما الجسم البشري. هذا الكائن الذى يحتوي على الملايين من الخلايا ذات التّنوع الهائل من حيث الشكل والوظيفة  تعمل كلّها في تعاون وتنسيق لتجعل من الوجود البشريّ ممكنًا. فكلّ خلية مهما صغرت لها دور تقوم به في المحافظة على سلامة الجسم، ومنذ البداية ترتبط كلّ منها بعــملية من الأخذ والعطاء مستمرّة مدى الحياة.  وبالطريقة نفسها، فإنّ الجهود المبذولة في جميع أنحاء العالم لبناء مجتمعات تسترشد بقــيم التّعاون والتواصل المتبادل تمثّل تحدّيًا للأفكار السّائدة بأنّ الطبيعة البشريّة في أصلهــــا أنانيّة، تنافسيّة، وتسير طبقًا لاعتبارات ماديّة. إنّ الوعي المتنامي بإنسانية مشتركة والذي يكمن تحت سطح هوياتنا المختلفة إنّما يعيد إلينا النّظر إلى حقيقة علاقاتنا مع بعضنا البعض كشعوب وأمم، ودورنا المشترك للحفاظ على بيئتنا الطبيعيّة. وسواء قُوبل ذلك بالمعارضة والعناد في بعض المجتمعات أو بالترحيب في مناطق أخرى كخلاص من ظلم فادح، فإن الوعي بأننا جميعًا جزء من عائلة إنسانية لا تتجزأ هو في طريقه ليصبح المعيار الذي نحكم به على جهودنا الجماعية.

في هذا الوقت من الانتقال إلى نظام اجتماعي جديد، تستجمع عمليات البناء والتكامل الاجتماعيّ زخمًا جنبًا إلى جنب مع عمليات الهدم والتفكك ذات العلاقة . فانهيار الأُسس الأخلاقية، والمؤسّسات التي عفا عليها الزّمن والشــعور بخيبة الأمل، تعمل على إثارة الفوضى والتـــدهور في النظام الاجتماعي، بينما وفي الوقت نفسه، تعمل قـــوى البناء على تنمية قواعد جديدة للـــتعاون وتحوّل في طبيعة ونــــطاق العمل الجماعي. إنّ عمليات البناء هذه تبدو واضحة بتزايد الشبكات الاجتماعية التي ظهرت بفضل تقنية المعلومات وتوسيع دائرة حق الاقتراع والمشاركة الرسمية في أنظمة الحُكم والتوجّهات الجماعيّة لتنمية المعارف ونشرها والتوسع في التعليم ورفع مستوى الوعي في التّرابط  المشترك بين النّاس، وتطوّر آليات جديدة للتّعاون الدوليّ، وما شابه ذلك. وبالمثل، يمكن ملاحظة ظهور عمليات صنع القرار المتّسمة بالشمولية المتزايدة عادلة وجامعة للشمل ومواجهة بذلك نظام التحزب كوسيلة لمعالجة المشاكل التي تواجه المجتمعات المترابطة على نحو متزايد.

وفي هذا السياق، فإن الجامعة البهائية العالمية ترغب في عرض خبرتها في عملية بحث وتقصٍ مُشترك تُعرف بالمشورة، والتي تُستخَدم كأساس لآليّة المداولات وصنع القرار في الجامعات البهائية في جميع أنحاء العالم. إنّ المشورة هي طريقة للبحث والتقصي الجماعي تعمل على خلق الوحدة لا الانقسام.  وبانخراطهم في المناقشات، يُشجع المشاركون على التعبير عن أنفسهم بكل حرية، وفي نفس الوقت، بكلّ وقار واحترام. لا مجال فيه للتعلّق بالآراء والمواقف الشخصيّة فيما يخصّ المسألة قيد البحث – فالرّأي المطروح لا يعود ملكًا لصاحبه فور طرحه بل يصبح مادة لدى المجموعة لتتبناه أو تعدّله أو تطرحه جانبًا. وعندما تبسط المشورة وتتفتح يجهد المشاركون في تحديد المبادئ الخُلقية ذات الصلة وتطبيقها. وقد تشمل هذه مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة وصيانة شأن البيئة الطبيعيّة ومحو التّعـصبات وإزالة الثّراء الفاحش والفقر المدقع، وما شابه ذلك. بهذه الوسيلة، وعلى عكس المواجهة التحزّبيّة والجدال، تعمل على تحويل مسار المداولات نحو البؤرة، مبتعدة فيها عن المصالح المتنافسة المتضاربة، دافعة إيّاها إلى ميدان المبادئ حيث تكون الأهداف الجماعية ومسارات العمل أكثر قابلية للظهور والانتشار.

إنّ التنوّع في وجهات النّظر ذات قيمة عظيمة، وكذلك المساهمات التى يتقدّم بها المشاركون في الحوار، حيث يثري التنوّع المداولات والبحث والتقصّي الجماعي والجذب الفعّال لوجهات نظر أولئك الذين كانوا عادة مُستَثنَون من المشاركة في صنع القرار، ويزيد من مجموع الموارد الفكريّة، بل ويدعم أيضًا الدّمج، والالتزام المتبادل الذي يحتاجهما العمل الجماعي. وعلى سبيل المثال، يساهم التّقدير الممنوح للتنوّع وتشجيع الأقليات في الطريقة التي تتمّ بها الانتخابات لمجالس الإدارة المحليّة داخل الجامعات البهائية: في حال تعادل الأصوات، يتمّ منح الوظيفة إلى مرشّح الأقليّة.

ولكنّ التنوّع في وجهات النّظر في حدّ ذاته، لا يمدّ الجامعات بوسيلة لحلّ الخلافات أو التوترات الاجتماعيّة. ففي المشورة، ترتبط قيمة التنوّع ارتباطًا وثيقًا مع تحقيق هدف الوحدة والاتحاد. وهذا ليس اتّحادًا مثاليًّا، ولكنّه اتّحاد يقرّ الاختلافات ويسعى لتجاوزها من خلال المداولات القائمة على المبدأ. إنّها وحدة في داخلها التنوّع والتعدّد. فبينما يكون لدى المشاركين آراء ووجهات نظر مختلفة في القضــايا المطروحة، إلاّ أنّهم يتبادلون ويتقصّون هذه الاختلافات بطريقة تساهم في تحقيق الوحدة ضمن إطار المشورة وانطلاقًا من الالتزام بالعمليّة والمبادئ التي تحكمها. إنّ الوحدة المبنية على العدل هي سمة للتفاعل الإنسانيّ يجب دعمها والدّفاع عنها في محيط تعمل فيه الطّوائف والفصائل السياسيّة والجماعات المتصارعة والتمييز المتأصّل على إضعاف المجتمعات وتركه عرضة للاستغلال والقمع. إنّ مبدأ "الوحدة في التنوّع" ينطبق أيضًا على الطريقة التي يتم بها تطبيق قرارات الهيئة التشاوريّة: فجميع المشاركين مدعوون لدعم القرار الذي تمّ التوصل إليه من قبل المجموعة، بغضّ النّظر عن الآراء التي عبروا عنها في المناقشات. وإذا ما ثبت عدم صحّة القرار، سيتعلّم جميع المشاركين من عيوبه وسوف يعيدون النظر في القرار حسب الحاجة.

تعتمد مبــادئ وأهداف العملية التشاوريّة على مفهوم أنّ الكائن البشريّ هو نبيل في الأساس. فهو يمتلك العقل والوجدان بالإضافة إلى القدرة على البحث والفهم والتعاطف وخدمة الصّالح العام. وفي غياب وجهة النّظر هذه، يعلو ذكر المسميات مثل "المُهمّش" أو "الفقير" أو "الضعيف" فيكون التّركيز على أوجه النقص والاحتياج التي بدورها تحجب الصّفات والقدرات المتنوعة لدى البشر. وبالتأكيد، فإنّ الاحتياجات والمظالم الكامنة يجب معالجتها من خلال  العملية التشاوريّة، ولكن على الأفراد، كمشاركين في المشورة، أن يسعوا جاهدين لينظر بعضهم إلى الآخر على ضوء نُبلهم وقابليتهم. ويجب أن يُمنح كلّ واحد منهم الحــرّيّة في ممارسة مَلَكات العقل والوجـدان، وأن يعبّروا عن وجهة نظرهم وأن يبحثوا عن الحقيقة والمغزى لأنفسهم، وأن يروا العالم بعيونهم. أمّا بالنسبة للعديدين الذين لم يجرّبوا مثل هذه الحرّيات، فستساعد المشورة في البدء في هذا المسار ليصبحوا من خلاله تدريجيًا قائمين على تطوّرهم الشخصيّ ومشاركين مشاركة كاملة في الحضارة العالميّة.

إنّ تجربة الجامعة البهائيّة في العالم، المتواجدة في ١٨٨ دولة و٤٥ منطقة توأم، تقترح بأنّ العملية التشاوريّة لها تطبيق عالميّ ولا تنحاز لثقافة أو طبقة أو عِرق أو جنس معين. يسعى البهائيون جاهدين لتطبيق مبادئ المشورة داخل عائلاتهم وجامعاتهم ومنظماتهم وأعمالهم والهيئات المنتخبة. وبتحسين هذه الممارسات، وتطويرها يُتاح المجال للمشاركين للوصول إلى رؤية وفهم أوضح فيما يتعلّق بالمواضيع قيد الدراسة، وتبنّي الأساليب الأكثر إيجابية في التعبير ثم توجيه المواهب المختلفة ووجهات النظر نحو الأهداف العامة، وبناء الفكر المتكاتف والعمل الموحّد ودعم العدل في كلّ مرحلة من مراحل العمليّة. ومن أجل تطوير وتطبيق هذه العمليات التكامليّة على المستوى العالميّ وإتاحة المجال أمامها لتُعطي ثمارها، يجب أن تكون هذه جنبًا إلى جنب مع الجهود الرّامية لتوفير التّعليم الشامل وإصلاح طرق وأساليب الحُكم، ومحو التعصبات والحد من الغنى الفاحش والفقر المدقع، بالإضافة إلى دعم وترويج لغة عالميّة تسهّل التواصل ما بين الشعوب والأمم جمعاء. ستعمل مثل هذه الجهود على إيجاد أشكال من التكامل الاجتماعيّ التي تحقق الوحدة والعدالة، ومن خلالها يمكن للشعوب أن تكافح معًا من أجل بناء نظام اجتماعي جديد.

إننا نختم بدعوتكم للمشاركة معنا في عمليّة البحث والتقصّي للنّظر في المسائل التالية. فيما يتعلق بالمشورة: ما هي الافتراضات حول الطبيعة الإنسانيّة وأنماط التّنظيم الاجتماعي التي تكمن وراء الخصومة في المداولات واتخاذ القرار (على سبيل المثال، المناظرات، الدعاية، التحزّب...إلخ)؟ ماهي وجهات الّنظر في الطبيعة البشريّة التي تؤدي إلى أنماط التّعاون في المداولات وصنع القرار وتبادل النفع وشراكته؟ كيف يمكن تعزيز العمليات التداولية التي تشجّع على حرية التّعبير وتحقّق الوحدة بين المشاركين؟ ما هي الهياكل الاجتماعية التي يجب أن تتوفر من أجل دعم المزيد من شمولية المشاركة في عمليات التداول وصنع القرار؟ وما هو دور القيادة والسلطة في عمليات التداول وصنع القرار التي تساهم في تحقيق الوحدة؟ وهل من أمثلة أخرى للعمليات التكاملية لصنع القرار؟ أمّا فيما يتعلّق بالتّكامل الاجتماعي: كيف يمكن إزالة التوتّرات الاجتماعيّة في إطار موحـّد؟  كيف نضمن أن لا تساهم زيادة الوعي ومعالجة أوضاع الظّلم التي تؤثر على مجموعة معينة، في زيادة التمييز والانقسام؟ وكيف نضمن أن لا يعزّز التّأكيد على قيم الوحدة والاتحاد، عادات القبول والاستسلام السلبية،  بدلاً من أن يدعم ويقوي الإرادة في سبيل نصرة العدل؟

الأصل الانجليزي:

Transforming Collective Deliberation: Valuing Unity and Justice
BIC Document # 10-0203
Category: Social Development